تخطي التنقل

الهزيل

أنزل العابر رجلاً تحت رصيف الشارع، ثم أعادها. الشارة الخضراء لم تضئ بعد. لما أضاءت اندفع بحشد المارة. وفي اللحظة، انزلق الحذاء من رجله، ما اضطرّه للوقوف في وجه التيار، حتى انقشع المشهد، وطارد النعل تحت قرع الزمامير، بين جحافل سياراتٍ منطلقة!.

وبعد انتظارٍ طويلٍ، استقلّ الحافلة المزدحمة واقفاً. فعلّق يداً بالقضيب المثبت خلال السّقف, حيث افترش دخان السجائر. والأيدي المعلّقة، الماسكة لفائف التبغ، تنقل الجمر إلى الأفواه خطفاً، فتمدّ السحاب بمدد جديد. انحنى الرجل قليلاً تحاشياً للسحب!. لكنه ظلّ صاعداً هابطاً، كون الحافلة تعبر فوق الحفر!.

أمام باب البيت..

أدار المفتاح بشيء من الجهد!. واخترق الممرّ..

كان الضجيج، والمرأة الحامل تخطر ميّالةً في مشية البطة, دون اكتراث به أبداً. مازالت تواصل الصراخ بالأطفال!.. فدخل غرفة النوم وأغلق الباب جيداً. عندئذ, عبرت رأسه الخواطر.. كم أصاب الترهّل المرأة؟!.. وكم فعل الزمن فعله؟!.. مع ذلك، تمضي السنون الهوجاء كلحظة!.. فيا للزمن الرديء!.. استسلم لتلك الأفكار! ..

كم مضى، ليجد أمامه هذا الحشد من أطفال؟!.. كموجٍ شرهٍ، مشرّع الأشداق، والعيون والآذان، على عالم يغصّ بالدسائس؟!..

في خضمّ استغراقٍ مستعرٍ في التفكير، نسي بطنه الجائعة، فأطلق صوتاً غريزياً:

دليلة!.. أنا جائع !..

جاءت تنظر شزراً:

لا شيء!.. كنت منشغلة!.. اقل لك بيضتين..

لبث هنيهةً ينظر في فراغ!.. فآثر الصمت, وقام يجرّ رجليه إلى المطبخ، هنا، فوق المقلاة، طرق بيضة بأخرى، ومالبث أن ابتلعهما سريعاً!..

مازال شارداًً يفكر!..

هزّ رأسه في مرارة!.. إلى من عساه يشكو؟!.. ومنذا الذي يسمع له شكوى؟!..

تقدّم صوب النافذة، فألقى رأسه خارجاً, وحدّق في عابري الطريق!.. هناك، رجل كفيف، وسط الزّحام، يقوده طفل، ويطرق الكفيف بالعكاز حافّة الرصيف فيما يتمتم بالأدعية، يخطو ببطءٍ ليس بالقدر الذي يشدّ به الطفل!..

أبعد عينيه جهة أخرى، ثم عاد وحطّ ثانية على الكفيف، لحظة صرخ في الطفل، بسبب السرعة. عندها، قاس الطفل خطاه بخطى الكفيف، وواصل الكفيف التلاوة!..

عاد وأغلق الباب مانعاً ضوضاء الشجار المنبعث, ثم همّ بالنوم، فأبت عيناه ذاك، ظلّتا تحدّقان في السّقف!.. حيث مرّت الرطوبة قشراً بالدّهان، تاركةً خريطةً متراميةً مبعثرة!..

للتوّ!.. اقتحمت دليلة الغرفة, وطلبت منه التدخّل في شجار الأطفال، كان في نصف إغفاءة، فأغلق عينيه كليّاً، ثم سمع كيف طرقت مصراع الباب قويّاًًً، وأصدرت دويّاً هائلاً!..

وسقط في النوم!..

مالبث أن توقّف عن الشخير، لحظة شعر بارتجاج السرير!.. هذي دليلة!.. انطمرت تحت الغطاء مانحة له الظهر. دون أن يحترك، عقد كفّيه في هدوء، واستعاد صور ماضٍ حميم!.. كان على وشك الزواج من صديقة جميلة. لقد انتهى بها المطاف بائعة للهوى!. قرّر للتوّ زيارة تلك الصديقة غداًة غدٍ!.. وهزّ رأسه للفكرة، ثم سقط في النوم من جديد

سدّت جحافل قافلةٍ هوجاء خطّ الأفق، والخيول الجامحة في عاصفةٍ الغبار، تجرّ عربات الفرسان في عنف، وتبدو ضاحكة، لوجود اللّجام بين فكّيها. يزعق الفرسان وقوفاً، في صدور متقدّمة, وفي أيديهم سياط تلوي راسمةً في الهواء دوائر، لتهوي على مؤخّرات الخيل, فتخبّ الخيل هدّارةً في أقصى سرعة!.. وإذا الكفيف هنا، هلعاً مذعوراً وسط المعمعة، يلوي على جنبيه ملتمساًً سبيل النجاة. فلا يعبر لحظة آمنة إلاّ وينزل به الخطر!.. لا يكترث الفرسان به مطلقاً، ويصرخ دون جدوى!. ثم اشرأبّت هامة الحصان فجأة، ليسقط الكفيف تحت الحوافر مطلقاً صرخةًً عظيمةً!..

نهض مرتعداً، فوجد فمه المفتوح يصرخ، ويداه في الهواء!.

فتململت المرأة وهي تغمغم:

ماذا بك ؟!..

لا شيء!.. مجرّد حلم!..

نهض وجرع ماءاً. وجد الليل قد جاوز نصفه. فتقدّم صوب النافذة، وألقى عيناً إلى الشارع!.. يلفّ ظلام دامس الحيّ كله. المصابيح المعلّقة على أعمدة متباعدة، ترسل الأضواء بالكاد ضعيفةً باهتةً, ما يغطي بضعة أمتار وحسب!. أصاخ السمع لصوتٍ يأتي من بعيد، ثم لصوتٍ لآخر!.. رجلان مخموران يتبادلان هتافاتٍ عابثةً, لا أثر لهما في الدُّجى:

يا..دامي العينين.. والشفتين!.. *

وسكت، فجاء الصوت الآخر:

إن الليل.. زائلُ!..*

رحمة الله عليك!.. عليك اللعنة!.

إن الليل.. مائلُ!..

عاد الصوت الأول ولعلع في قوة:

وإنّ النّهار أظلم!..

أصاخ لصوتٍ غافٍ في الخيال!.. تلك الأشعار يعرفها!.. مازال صداها في سمعه!.. فابتعد قليلاً ليطرق مصراع النافذة، وبخطى راجعة استعاد مكانه، ليسقط في النوم من جديد!..

* * *

صباحاً !..

ولج المكتب منهكاً، وبعثر الأوراق. فكّر في قرار الليلة الفائتة، فلم يجد رغبةً ما في النكوص عنه. وأطلق لنفسه الخيال!..

سيحمل معه زجاجة كبيرة, وعلبة حلوى, وهدية!.

وكونه يعرف المرأة, وكيف سقطت في أحضان الشيطان, يجب التأنّي لها في اختيار الكلام، دون مواعظ, أو حكمٍ!، يعرف الأحداث التي عصفت, وكفى!. ربما يسأل عن أخبارها, ويدلي بأخباره اختصاراً. سيلمّح إلى علاقةٍ جديدةٍ محتملةٍ, فإذا ما ألمحت إلى زوجه, سوف يتضاحك قائلاً، لا تهتمي، عندها من العلف ما يكفي!.. والمشكلة، أنه ارتكب خطأاً كبيراًًً، يوم انجرف وراء امرأة لا همّ لها سوى القعود فوق كومة البيض والتفريخ!.. نعم!.. وهكذا، بكلّ ببساطة، انتهى محاصراً بجيش من أشقياء!..

حرّك رأسه بأسىً, ربما يكون في الأمر إساءة، فالمرأة، تدافع عن المرأة، مهما حدث. وعندها، يكون في واحدة، ليصبح في اثنتين!. فكّر في ذاك الكفيف!، كيف توقف عن التمتمة في عرض الشارع، ليصرخ بالطفل كونه زاد السرعة قليلاً!.، ربما كان الكفيف أفضل حالاً منه!. وهنا، تكمن عين المأساة!..

أمسك عن التفكير, ورفع سماعة الهاتف، فحشر فيها كلمةً واحدة:

قهوة !..

والتفت إلى ركنٍ خفيٍّ، فأخرج رزمة صور عارية، راح ينعم فيها النظر!..لكنه سمع للتوّ نقراً على الباب, فأخفى الرّزمة حالاً.

دخلت امرأة في الأربعين، تبسط له الأوراق وتنتحب:

أرجوك يا سيدي!.. أوراق .. وأوراق .. وأوراق!.. انظر!.. متى تعطون الأيتام حقّ أبيهم؟!..

رنا إليها مليّاً، وفكّر، هل تخفي المرأة الحزن حقاً في قرارة نفسها؟!.. بعين فاحصة قدّر هذا، وذهب به الخيال إلى زوجه!.. لا شبه بينهما. فقدّم لها القهوة, وجاس على شاربيه فيما يفحص الأوراق!.. خطرت له فكرة، لا شكّ أنّ المرأة مستقيمة، فما تبحث عنه شيء بخس لا يكفي لمسح حذاء!.

وماعساك تفعلين بهذا المبلغ يا امرأة؟!..

أسألك بدوري يا سيدي، ما عسانا نفعل؟!.

رصّع الأوراق بخاتمٍ أحمر، وشيّع المرأة، فيما تغادر، حتى الباب!.

وعاد إلى الصور العارية..

لبث مليّاً عند واحدة، ثمّ راح يخاطب الصورة بصوتٍ هامسٍ:

أنت!.. ربة الجمال!..

يا للصدر.. والفخذين!.. والشعر الكستنائيّ المنفوش!.. آهٍ!.. أنت أجمل!، أجمل منّا جميعاًًً, وأشرف, وأكثر براءةً, وأطهر!.. هكذا، شفّافة دون قناع!.. مثل كريستال نقيّ!.. مثل قطر الندى!. أتعرفين؟!.. شيء ما فيك أحسن منّا جميعاً!..

وانخفض صوته:

هل قتلت؟!، هل سرقت؟!، هل حرقت الأخضر واليابس؟!.. أبداً!.. إذاً، أنت أجمل، وأشرف، وأشهى!..

وعاد إلى همّه!..

يا لرحلةٍ طويلةٍ!.. ودون كيشوت، ذاك الفارس المرصّع في نصوص التاريخ, على صهوة الحصان، يخفق بالسيف عالياً في الهواء، ثم يعتلي الناصية، ليلقي خطبةً عصماء!.. يمرّ لمحاً برجل خائر، فيقف، وجهاً لوجه أمامه, يمدّ له يداً للمصافحة, ويعقدان عهداً أبديّاً. يقول له الخائر, أيهذا الفارس الرمز، هات اهدني صورةً موقّعة. لا تبتئس!. نعم, لقد قطعنا الدرب، وفي صدرنا الأمل, أفإن خارت بنا القوى، وكبا الحصان!.. لا همّ إن حدث ذاك فوق الجليد, أو في فيافي الصحراء, فالنتيجة واحدة. لا تبتئس، ولا تضحك!.. سنقصد، بعد قليلٍ، بائعة الهوى, لنرى ما يمكن لنا فعله!..

ألقى نظرةً، فوجد عقارب الساعة تدور بسرعة. لقد انتهى الدوام!.

حمل على نفسه متقدّماً بخطىً بطيئةٍ في اتجاه المخرج . وجد الحارس يهمّ بقفل الباب الحديدي!..

قال الحارس :

أما زلت هنا ؟!.. يا الله !.. اعذرني !.

* * *

ضوء شمس الأصيل باهر!.. رفع الصحيفة دريئةً لعينيه, وتشمّم هواءً رطباً طازجاً!.. على الرصيف، رفع قدمه لماسح الأحذية، وهمّ بقراءة الخبر، “مسابقة ملكات الجمال”!.. هذا هو الموضوع الأنسب للثرثرة مع بائعات الهوى!..

اجتمع أطفال غجر من حوله، يطلبون حسنةً!.. ملكات الجمال!.. موضوع الحديث.. للثرثرة.. والغجر؟!.. حرّك الصحيفة بنزقٍ. إنه منشغل، يقرأ وثباً فوق الجمل، ولا من يحزنون!.

في اتجاه الهدف!..

تقدّم مجدّفاً في الأزقّة القديمة، فانعطف بالكاد مع الزوايا، وتوازى بالأرصفة، حيث أعناق المحالّ والمباني وثّابة في تقدّم وتأخّر دواليك!. والمارّة في موج دافق، وجوهُ شاحبة, وشوارب فخمة, نسوةٍ متبرجات، أخريات محجبات، وينطلق العطر!.. واحد بكومة شعر في وجهه، وأخرى بعيون حوراء لاسعة. أمعن في شفتين مكتنزتين تصدران الدلال، فمالتا مع الوجه الملويّ، وعينا رفيقها الرجل تطلقان نظرةً ثاقبة مسلّحة!.. ثم تسلّلت من ورائه ضحكة شاهقة!.

أخيراً، وقف قبالة الباب، وأوتر السبابة، كي يضغط على زرّ الجرس .

هي ذاتها.. تصرّ عينيها في دهشة!. فتملّى الوجه المليح محاولاً الابتسام, لقد ازدادت جمالاً!. صار لها صوت رخيم، في بحّة موسيقيّة!..

تفضّل!..

فقرّر الكلام وقال:

أصبحت فاتنة!..

ميرسي!..

عابراً ببطء فوق سجّادة عجميّة، مروراً بحائط مزدحم ، ولوحات الرسم، فلبث هنيهةً، وألقى في سرّه أسئلة لم يكشف النقاب عنها، يا ترى هذه اللوحة أصلية أم مزوّرة؟!.. والسجادة الباهرة، كم لها من عمر، وقيمة!.. صورة الطفلة فوق الطاولة، من هي؟!.. والخزانة المرصّعة بالنقش!، هذا طلاء الذهب، أم الذهب؟!..

بحذرٍ تساءل، أيّ أخرق يطرح مثل تلك الأسئلة!.. في هذه المناسبة بالذات، وعلى امرأة منكوبة؟!.. منكوبة؟!، وعندها مال قارون؟!.. ولكن، يا عزيزي الزائر!.. اسكت، واخرس!.. نعم منكوبة!. بالله عليك، ألا تبدو كريهاً، أمام نفسك، كمحققٍ سريٍّ، يطرح أسئلة فظيعة؟!.. إذاً، لم يعد إلاّ أن تسأل، كم تملكين من ثروة؟!.. أفلا تخجل؟!. وافترض أنك تشدّقت بما في صدرك، ألا تحصر المرأة في خانة ال “يك” كما لو أنها متهمة، في جريمة؟!، حتى وإن أجابت عمّا أردت، هل ستحتفظ باحترامها لك؟!.. أو باحترامك لنفسك؟!..

فجاة، جاء صوتها المنغّم من المطبخ:

هل أعجبك بيتي؟!..

لم يجب. وعاد بالتقريع إلى نفسه!..

تفضّل!.. ألا تستفزّك؟!، لتطرح بدورك أسئلة مستفزّة؟!.. إذاً، من منّا الدنيء؟!.. بل كفى!.. وأجبها, بعيداً عن الدناءة!.. هل تخرج عن طورك؟!.. تبحث عن التكافؤ في الدناءة!.. العين بالعين، والسن السن؟!..

انتهى!.. سيكون الردّ متأخراً!، وأنت.. كأبله، حتى وإن نطقت جوهرة!، فاسكت!.

ألقى بعينيه إلى الشاشة!.. حيث يدور فيلم عاطفيّ.. واختار مكاناً للجلوس.

ثم لوى إلى الوراء قليلاً، فوقعت عيناه جانب السرير، حيث قطعة من لباس داخليّ مرميّة, هنا، راوده الشكّ!.. بحركة مستفزّة حمل القطعة بالسبّابة، وأدناها إلى أنفه, من ثم ألقاها، وعاد يرنو إلى الفيلم من جديد!..

لحظة عادت المرأة بخفٍّ حريريٍّ كاتمٍ للصوت، فوق السّجّادة العجميّة، كان الفيلم يكشف عن مشهد فاضح!.

قال لها:

ما هذه الأفلام؟!..

تساعدني على الفريسة ياصاحبي!..

هزّ رأسه، وألقى إلى الفيلم نظرة أخرى!.. لم ير مثل هذا أبداً!.. لكن المرأة انفجرت ضاحكة وقالت:

تزيدنا خبرة!..

هزّ رأسه، ونبس بشيء ما، من رأس شفتيه. لم تفهم المرأة، وابتسمت في طريقها إلى المطبخ. فوجد فرصةً أخرى، وحمل قطعة الحرير، للفحص ثانيةً، فلم يكتشف أثراً أو رائحة. وأعادها مكانها.

سلّة الفاكهة، والزجاجة الحمراء، والمرأة الباهرة!..

ألقى عليه الفيلم بريق الشبق، ملتزماً قلّة الكلام، وانتبه لكأسٍ مرفوعةٍ إليه، فأخذ جرعةً كبيرة, ثم حرّر يده كي تستقبل قطعة تفاح مقشّر، بسرعةٍ لاكها، ثم ابتلعها. وصارت أمامه الحيطان ترتجح ثملى!..

قالت له:

حدثني عنك!.. كيف الحال؟!

وثبت أصابعه إلى الشّاربين لاغطاً في كلامٍ غير مفهوم!.. فانتبه لذلك، وعاد ينطق جملةً ما محاولاً الشرح. أخيراً، لفظ جملة تامّة:

لقد سقطنا!.. فاسألي عن شيء آخر.

انفجرت المرأة ضاحكةً، وأشارت إلى مشهد في الفيلم، ما استفزّه، فقال لها:

أصبحت عاهرة!..

وأنت.. ماذا أصبحت؟!..

عاد وانتبه!..

لا انفعال!.. أما التزمت بهذا؟!. ما عليك الآن إلاّ أن تستعد للرحلة!..

أرسل بضع أصابع إلى أزرار القميص, لكنها راحت إلى المنخار تحكّه، والكفّ إلى ربطة العنق, فانهمكت تبعثر له الشعر!..

وهمد لحظة، ثم أمال رأسه في جهة, والرجلين في أخرى. وراح يقصّ لها كيف قضى ليلة ليلاء. وهذا، دون شك، ترك الأثر السيّئ. ثمّ صمت، فجأة، مستغرقاً في التفكير!..

تناقض نقيض غريب!.. شغف وفشل!.. ما هذا؟!.. فبصق على عضوِ نائم، وقام يريد الانصراف!.

قالت له:

أنت لست سعيداً!..

ربّما!..

كيف حال الستّ؟!..

هدّدتني بالحبس: افتح عينيك وانتبه!.. استدعيت الشرطة مرتين, وقالوا لك, انتبه!.. أو ترى ما لا يسرّك أبداً!.. وكأنني لم أر بعد!. هذي هي الست، تفضلي!.. دافعي عنها!..

يا الله!.. أصبحت هزيلاً!..

تقمّص البذلة العصرية كيفما اتفق, وألقى جملةً ساخرة:

لو كان لي سيفان.. أهوي بهما في الهواء، وأنتضي الناصية، لألقي خطاباً!. لكنت في حالٍ أفضل!.

ونبس لها وداعاً من رأس شفتيه، ثم مضى!..

* * *

في اتجاه بيت أخيه..

اجتاز أزقّةًً قديمةً مروراً بالساحة الصغيرة، هنا، يلعب الصبيان بالكرة ويصرخون!. فجعل يلوي شمالاً ويميناً، تحاشياًً لركلةٍ طائشةٍ!، وحثّ الخطى قليلاً، لكن الكرة لم تخطئه بصفعة قوية!.. ظلّ مكانه، في نظرةٍ حادّة، وتوقف الصّبيان تحسّباً لما يمكن للرجل أن يفعله!.. لكن شيئاً لم يحدث!. وواصل الرجل سيره.

حين قارب الهدف, كان احمرار خدّه قد تراجع إلى مسحةٍ صفراء. وطرق الباب!..

خرج له أخوه، وقاده إلى قاعة ملأى بحشد من الزوّار، إنهم منهمكون في جدلٍ صاخب، لم يعرف أحداً منهم. كانوا يتحدثون في السياسة، وفجأةً، دار الحوار همساًً بالرمز والإشارة!..

التفت إلى أخيه وتبادلا أطراف الحديث، عن العائلة، وعن حاله الصحية. كرر له أخوه اللوم والنصائح كالعادة. ثم تسللت كلمات من الحشد، تدور بين اثنين:

حمار دون شك!.. رفض نصف مليون ليرة ؟!..

طبعاً، وغبيّ!.. يعطي الله اللحم من ليس له أضراس!..

فأمسك عن التحدّث مع أخيه، وحدّق في الجمع باحثاً عن المصدر، ثم فجأة، وجد نفسه في المعمعة، وصرخ في غضب:

نحتاج لديكتاتور عادل!..

خيّم على الحشد صمت حذر. ووجد نظرات الفضول تتجه إليه, فاستوحى الشجاعة من واحد هزّ له الرأس، واتجه كي يضرب لهم مثله الأعلى:

ضاعف الأجر ثلاث مرات، ومنع الرشوة، وبنى جيشاً قويَاً!..

فقاطعه أخوه:

وماذا فعل أخيراً؟!..

فعل ما فعل!.. أصحابه هم الذين خانوه!..

واختلس نظرة باتجاه المرآة!..

طاف احمرارٌ طارئٌ خلال الشحوب. واستعاد مشهد الأعمى بين الزحام، ثم ساقطاً تحت حوافر الخيل!.. فشعر بانقباض شديد. مرّت زوج أخيه تقدّم الضيافة, فمدّّ يداً إلى كوب الشاي غير آبهٍ للحرارة اللّاسعة، لم ينتبه حين أشارت له إلى الصّحاف، كان يقذف الكلام عالياًً:

أين تجد العدل، والقانون؟!.. لا مبادئ للغابة!. إن أردت شيئاً، فما عليك إلاّ أن تحترم طقس الغابة، واحتفاءها بالمخالب، والأنياب!.

برأسٍ منكّسةٍ، وحسّ بالغثيان عارمٍ، ظلّ يرفع نظرةً ويلقي إليهم!.. كوّن انطباعاً عن كل واحد، هذا بثيابه المبعثرة التقليدية, وذاك في شكله المنمّق المريع, أما هندام صاحب السّموّ الرفيع, من لم ينبس بحرف حتى الآن، ما يدعو للريبة والشكّ!.. فما عسى يجمع بين حشرٍ عجيب كهذا؟! وأيّ مكان له بينهم؟!..أيّ فكرة عساها تُلقى إليهم، وتلقى القبول؟!.

شعر باستفزاز عظيم، وواصل القذف!.. خفق بكلتا يديه، فسقط الكأس أرضاًً، وتكسّر إلى شظايا، ما لاث له البنطال!. لحظة انتبه لهم، كيف يلقون نظرةً ساخطة، استبدّ الغضب به، ولمعت عيناه بالشرر، ثم انفجر:

ما دهاكم؟!.. كأس شاي واندلق فانكسر!.. أما رأيتم، كأس شاي اندلق وانكسر؟!.. أم وجدتم سبباً لبثّ السمّ المغليّ فيكم؟!.. خسّة!.. أنذال!.. لا همّ لكم إلاّ الجنس، ونفخ البطون، وملء الشوارع بالقطعان!.. كالحيوان!.. إن كنتم.. حتى أنتم!.. لا تعرفون للرياضة معنى، فكيف يعرفها صغار شياطين؟!.. تتحدثون في السياسة؟!.. ويلي عليكم!.. وويلي منكم يا أوباش!.. لو كنتم برأس وذيل، لكان خيراً!.. امتلأت المشافي بكم يا عجزة!.. والمقابر، والحدائق، والشوارع؟!.. والتهمتم كلّ شيءٍٍ كالجراد، حتى صرتم بكروشكم طبولاً تقرع، وأشداقاً تخور!..

وهبّ واقفاً!..

راحت المرأة تنظف له البنطال من لطخة الشاي، فنظر إليها، ولاذ بالسكينة. ثم نظر إلى الجمع من جديد!.. كانوا في أسارير باشّةٍ رقيقةٍ، وقال أحدهم تخفيفاً له:

لا يهم!..انكسر الشّرّ!..

وقدّم له آخر كأساً جديداً، وضاحكته المرأة!.. عندئذٍ، انفثأ الغضب فيه، وسألهم:

هل تلفّظت بشيء مزعج؟!..

قالوا:

لا!.. أبداً. رأيناك تعصب رأسك!.. هل تعاني من صداع؟..

لم ينطق بحرف!..

رفع الكأس إلى شفتيه، ثم إلى عينيه، وانتبه، كيف جرع نصفها دفعةً واحدةً، فلم يشعر، هل كان الشاي حاراً أم بارداً، أم بين بين؟!.. كذلك السكر، هل كان بالقدر الذي يرغب، أم دونه؟!.. أخيراً أخبرهم بقوله:

إني متعب!..

وعاد للتوّ يجترّ جملةً من أمور حملت له العناء!.. كان قد انخرط في الحزب، من ثم انسحب منه. ومذ ذاك، انهالت عليه التحقيقات والأسئلة والتقارير، حتى صار تسليةً لهم وملطشةً!.. نصبوا له العيدان، وعلّقوا الحبال، وصار لا يجوز حفرة إلاَ ليقع في أخرى. وكم انخرط في جدل عقيم، ما اضطره، في النهاية، لأن يعلّق صوراً من نسخة واحدة، على الجدران الأربعة، في البيت، والمكتب. والشارع، والحديقة!.. ولم يكتفوا!.. وهو المطمور بالقرف، فلا يرفع عينيه عن قدميه، عن الأوراق، أو الصور العارية, حتى يطلق بهما إلى أعلى، وقد اعتاد الأمر، أصيب بحولٍ علويٍّ، وذهب في متاهة, فداهمته الكوابيس والوساوس!. ينعجن كلّ يومٍ في زحام الحافلة والسوق والبيت، وقطعة العجين تعبرها الفصول العجاف، لتشتوي رغيف خبزٍ صيفاً، وتنكمش إلى قطعة ثلج شتاءاً!. وكل صباحٍ، كلّ صباحٍ!، بعد عناء ليلة صارمة، يصحو تحت زعيق امرأة ملأى بالمطالب والغضب!. ليأوي في المكتب خائراً، ينظر في الملفات الصفراء الشائكة، ويقرأ الصحيفة من آخرها، ويرتشف القهوة دون ملذّة!..

تحمّل ذاك الشقاء منطوياً على نفسه، فلا منقذ له!، حتى كاد أن ينظر من أصابع رجليه، ويطرح على الكرسيّ خراءه!.. إنه على يقين، من أن هؤلاء جميعاً لا يعرفون شيئاً عنه!.. والحال هذه، ما عليه سوى أن يتركهم في شأنهم، ويمضي!..

ترك الكأس نصفه، وهبّ واقفاً، فلفظ لهم وداعاً صغيراً من رأس شفتيه، ومضى لا يعقّب!..

أرخى اللّيل سدوله!.. كان الطقس مشبعاً بالرطوبة، وتهبّ، من حين لآخر، نسمة باردة!.

عند مفترق الطرق، تلفّت في كلّ اتجاه!.. في أيّ دربٍ يمشي؟!.. ما لبث أن اتّخذ واحداً، ظنّّه خالياً من الأشباح!.

انتهت

*(: إشارة إلى أبيات من شعر محمود درويش:

يا دامي العينين والكفين إنَ الليل زائل

لا غرفة التوقيف باقية ولا زرد السلاسل

نيرون مات ولم تمت روما ، بعينيها تقاتل

وحبوب سنبلة تجفَ ستملأ الوادي سنابل)

* * *

عمّان/ في1-6-2010

صياغة جديدة : 21-1-2010 . نسخة معدّلة:1-6-2010

أضف تعليق